عمّان – من عمر شبانة:
أول ما يفعله الانسان العائد، بعد سنوات طويلة من الترحل، الى المكان: الأول، مكان الطفولة، هو استنفار حواس اللمس والشم والسمع و.. حتى الحاسة الشعرية الألف التي تفجر لدى الشاعر، الفنان والانسان، مكامن المخزون الشعري الممتلئ، في هذه اللحظة، بالمشاعر المتناقضة والمركبة. وتغدو المشاعر ملتبسة ومرتبكة لا هي في العودة ولا في الرحيل، بينهما، قبل ان تدرك أن العودة تخلو من الحالة الحلمية، ولا ترقى الى حد الولادة الجديدة.
يبحث الانسان العائد ويتلمس ويتشمم ويصغي ويكاد يقبل ويحتضن حتى حجارة المكان، لكنه لا يبحث عن المشاعر التي لا تترك له فرصة بل تهاجمه بوحشية الكائن المتحفز، تهاجمه مشاعر اللقاء الغامض بالناس والأشياء، ومشاعر الفقد الساطع للاشياء والناس الذين خلفهم هناك، في الترحال، دون ان يصل الى الناس الذين عاد اليهم، فالعودة لا تكون مكتملة وحقيقية الا حين نلتقي بكل من،وما نحب، وبكل من شدنا اليهم الحنين، أي حين نصل الى تلك المساحة المكانية والزمنية التي غادرناها ورحلنا عنها وها نحن نعود اليها، فهل ثمة من يعود حقا الى تلك المساحة من أرض الطفولة والاحلام، أم أن العودة، كل عودة، هي أمر مستحيل؟
في تجربة سيف الرحبي، كما في تجارب شعراء آخرين من جوانب معينة، نشهد العلاقة مع المكان الاول في حال الاغتراب عنه، وفي حال ((العودة)) اليه، ففي المجموعات الشعرية التي اصدرها حتى الآن، ثمة هذا الحضور الكثيف لأماكن الطفولة، كما لأماكن الترحال. أما في مجموعته الجديدة ((جبال))، فالشاعر يعبر عن ارتطامه بالمكان الأول، كما لو كان يسقط من الترحال الى هوة صخرية ليس فيها من مكان الطفولة و((طفولة المكان)) سوى أشباح الماضي وروائح عناصره الهالكة والمندثرة، فالمكان الأول يختفي وراء المكان الجديد، وحتى ان ((الديار تضمحل في عين عاشقها، وكأننا، حين نقرأ نصوص هذه المجموعة الجديدة نلمس حجم الهوة بين الشاعر العائد بكل ما فيه من حنين الى اشياء الطفولة وبين ما صارت اليه أشياؤه هذه من ظلال، حتى لتنقطع أي لغة للاتصال فتغدو العلاقة مع هذه ((الساحرة الولود)) وقد قطعتها الكثبان الممتدة والأزمنة المكدسة، وما من وسيلة سوى الهذيان عبر قدرته على فتح أبواب الماضي، أما الكلام العادي فيصبح غير مفهوم، فقد حلت ناطحات السحاب المضاءة بأسماء الذين نزلوا حديثا من الجبال في محل الجبليين  الذين كانوا رعاة ينحدرون بأناشيدهم محدقين في الأبد الجارف للسيول، وفي الفضاء المفتوح للشمس والهواء حلت أبنية ((لدحر فيالق الشمس)). وربما كان النص الأطول في المجموعة، أي((هذيان الجبال المسحورة)) هو النص الأكثر تجسيدا لهجائية الواقع وتحولات الحياة في اثناء غياب الشخص الذي كان قد مضى تاركا خلفه كل شيء، متتبعا آثار نداء الروح التي كانت تغريه باجتياز البوادي الى الأحلام، الى الكتب والثورات التي ستقلب وجه العالم.
في هذه الهجائية، لا تنكمش الأحلام، بل ينقلب الكثير منها الى سيوف وحرائق تسطو على الخراب وتكشف عن منابعه. وكما لو ان الشخص لم يكن ((عائدا من أسفار سحيقة)) يبدو اللقاء فاترا، بل جنائزيا، حين يصور نفسه وهو يرتمي في ظلالها ((الثكلى))، وكأن الجبال لم تعد سوى مقبرة، أو كأن ((الجبال عرين الذكرى)) حيث الذكريات أسود تطل برؤوسها في واقع تحتله الكلاب والذئاب، وعالم تحتله أطباق الفضاء والأحاديث التي تشبه الزجاج، ومن شدة الانفصال عن الماضي والقطيعة معه، تظل تتكرر عبارات مثل ((كأنما لم نكن)). ويستمر هجاء الحاضر في صيغ مباشرة حينا، ومن خلال مديح الماضي حينا آخر. وتنفتح بنية النص على امكانات الدراما السردية والغنائية، ويحتفظ التوتر القائم بين الزمنين بتصاعدية يؤججها رنين الفعل المضارع ولا تخلف منها صيغة التذكر الحميم والبوح الشرس. وتظهر صور عدة ترسم ملامح الشخص في أحواله الدائرة في فلك الذئب . والضبع…/ صديق السحرة)) وفي حال الضياع غالبا، حيث الحانة وحدها هي المأوى الذي ينطلق اليه، وبعد موجة تحولات المكان المرعبة يأتي تأمل بمحمولات الكائن، حيث يبدو في صورة من صوره  شخصا ((لا صلة له بهذه الأمكنة)) وكأنه  ((لم تكن له طفولة على هذه الأرض)) الأمر الذي يجعله يسقط، في هاوية نفسه)) حيث لا عاصم سواها يعتصم به من فيضانات القذارة وأطباق القلق المرعب.
إننا في دائرة لا يخفي فيها الشاعر/ الكائن العائد من المنفى الاختياري، بأن المنفى يعاد انتاجه في صورة مختلفة، فالمنفى في الوطن أشد قسوة، وله ملامح وحش يفترس العائد ويمنع تحقق العودة المحلوم بها.
وفي هذا العالم، يبدو كأن لا شيء يبدد الوحشة سوى محاولة الكتابة بما تنطوي عليه من دلالات المقاومة وتعبيرات البوح. حيث تغدو الكتابة فعل حياة، أو فعلا مساويا للحياة التي يستطيع الشاعر أن يعيشها، الحياة التي يحاول أن يخلقها في موازاة، وفي مواجهة، الحياة العملية، اليومية، المحتشدة بالضجر والغثيان وكل مفردات الوجودية غير العبثية، وجودية الأسئلة الحارقة والتأملات البسيطة التي لا فذلكة في حداثتها. وهذا بالتحديد هو ما يصوغ خصوصية هذه النصوص من عوالم يتشابك فيها الشعري بالنثري لتوليد حالة خاصة، وهوية خاصة للكتابة تقترب مما يعرف بالسهل الممتنع، لكنها- في الوقت نفسه- تبتعد عن أي بلاغة مألوفة.
وإذا جاز تقطيع هذه المجموعة، فيمكن تقسيمها الى أقسام ثلاثة: نصوص قصيرة، نص طويل، نصوص قصيرة، وعبر هذا التقسيم نكتشف الصعود والهبوط في سلم البوح والهجاء، ففي نصوص القسم الاول، نمضي مع حالات من البوح والشكوى المريرة، وفي نصوص القسم الأخير ثمة هجاء قاس، وتجتمع في القسم الثاني، في النص الطويل، نغمتا البوح والهجاء معا.
في نصوص القسم الأول، يعبر البوح عن المرور المؤلم للزمن، الزمن الواقع في ستة وعشرين عاما من ((النوم المليء بالمذابح والأحلام)) والمنفى الذي لم ينفصل عن الوطن حيث البؤس علامة من علاماته، ولا ينفصل الذاتي عن الجماعي، فالذات المفردة لا تكف عن رؤية ((عيون صيادين تمخر المياه/ وأيديهم أيضا، التي تخيط الفجر القادم كما تخيط شباك الصيد)). في هذه الشكوى تعاطف والتحام بماض لا يمضي، ماض يبدو حاضرا ومستقبلا، اذ يقيم البؤس ويتخذ أشكالا ويتفاقم، لكنه لا يرحل، ولا يرحل شيء سوى الحب، ولا يبقى من جماليات الماضي سوى موسيقى الاجداد ((تحرس أرواح الموتى)) و((بضع محارات)) هي تعويذة الشاعر ضد الموت.
وفي هذا القسم ايضا نعثر على بقايا حنين الى الاعالي، ولكنها الأعالي التي ((لن يصلوا اليها أبدا))، اذ لا شيء يبقى على حاله، بل يدرس ويغدو أطلالا وذكريات تذروها الرياح، والزمن محض مساءات مسجونة في كؤوس وليال يدحرها الانسان- الرجل هنا- بالمرأة، الزمن ممتلئ بالصمت والرغبات والانتظار الذي لا يسفر عن تحقق. تلتقي في نصوص القسم الأول إذن، بدايات الخروج من الوطن، وشيء من عذابات المنفى ولعنة الغياب، ثم بدايات العودة غير المتحققة، العودة المرئية رأي العين والعقل، لا كما تود الروح ان ترى. فالعائد يعرف انه لن يرى ((ممرات الطفولة)) ولا ((الأعشاش والنخيل)) ولا ((لثغة طيور وليدة)). أما النص الطويل ((هذيان..)) فهو يتخذ من الهذيان أداة تمزج الأزمنة والامكنة، وتجعل ممكنا هذا التداخل بين الواقعي والحلمي، وتلعب بالصور والأشياء لعبة تشكيل تنطوي على عمل سحري او عمل بأبعاد سحرية، حيث التخييل لعبة أساسية للهجاء، والهذيان وسيلة ناجعة للجمع بين لغة الحنين ولغة الهجاء، اذ الحنين هنا معكوس،وكأنه الهجاء، فيما يتخذ الهجاء- عبر الهذيان- صورة من صور الحنين الى حالة من حالات المهجو. أي أننا أمام ما يمكن أن نسميه بـ((الهجاء الحنيني)) و((الحنين الهجّاء))، هذه الحالة المركبة التي تنطوي على ذلك التناقض، بل التنافر بين هذين القطبين الشعوريين كما يبدو في الظاهر، اما في العمق فهما ينتميان الى النبع الشعوري نفسه الذي يمكن أن يتحول فيه الرثاء الى مديح او يمتزجان في صيغة مركبة واحدة. وهكذا، فحتى الهجاء الحنيني يتصاعد في هذا النص الهذيان الى ان يبلغ في آخره مبلغ رثاء روح الصحراء، ذلك الرثاء الساخر الذي يحيل الى الهجاء مرة ثانية.
وبانتهاء الدوائر الثلاث، تكتمل صورة هذا العمل، التاسع، في مسيرة الرحبي، لكنه الأول الذي يكتبه في عمان، ومن هنا يتدفق هذا الوعي الشعري بالعالم والحياة والعناصر، من المواجهة بين ما قبل وما بعد، لترتسم صورة الآن… وهنا، بكل ما أوتيت الكتابة من قدرة على خلق التوازن، عبر استحضار لعوالم تتجمع وترتفع- في الكتابة- لمواجهة الخراب وتعرية رموزه، الخراب الذي هو ((البطل)) الحقيقي في هذا العالم، أما الحياة ورموزها، ففي الهامش أو تحت الأقدام الخرافية للخراب.
____________________
المجموعة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت/ عمّان 1996.
جريدة الحياة 16/يوليو/ 1996م