علي عبدالأمير
الكتابة الشعرية التي تحاول المغايرة تدفع بذاتها بعيدا عن خضم لعناوين الكبيرة وتبدأ باشعاع داخلي، تبدأ بجوهر فكرة تتحقق في معيوش ذاتي لتلجم بذلك نداءات التعبير المستهلك والسائد. اذن في لغة مرجعها تجربة شخصية تتشكل هل من الممكن تركيز شظايا عالم في موازنات رؤيا فردية؟ هل يقدر الشاعر على مغادرة (اشكالية) ستظل تلازمه، تحرير لغته من الاستعمال العام والوصول بها الى مشارف شخصية؟
(…) مقترب للجوهر الشخصي
في كتابه المتضمن مجموعتي ((مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور))، ((رأس المسافر)) والصادر عن (المطبعة الشرقية- عمان 1989) نجد الشاعر سيف الرحبي وبعيدا عن مكانه الأول- سلطنة عُمان- يواصل بدأب قل نظيره التعرف على صباحات متعددة وفي أماكن تتغير دائما. انه يندرج في المغايرة معولا على رؤاه. تدفقاته الحياتية دون اتكاء على وسائل الخارج والعام، فحين يخبرك عن الذين ((جاءوا من البيت المجاور لاحلامك باحثين عن صدر أكثر رأفة من المعرفة))، يأخذك الى مكان على حدة لكنه ليس بالمكان النائي، ويؤثر السلامة عبر فانتازياه. بيت مجاور للأحلام، بل هو مقترب لبحث في الجوهر، محاولة للدنو من المعرفة وهذا كما يقول يستدعي ((شحذ اعضائي بشفرة صنعت من غياب)). ومرة أخرى يأخذنا نحو البعيد ولكن اعتمادا على احتدامات شخصية ونعود معه ((وكالموجة تنشب أظافرها في جسد الاعصار، دخلت فيه هذا العالم)).
أهي سيرة تسرد حكمتها في التماعات وتترك كل شيء لمنظومته وسياقه ((لتقذف الأنهار نفايات مدنها في البحر))؟ انها ليست كذلك على الرغم مما يشكله جزع الشاعر من المكان وحساسيته المفرطة ازاءه، ويجعله لاحقا يؤول الى المعنى والانتقال دونما وقفة حساب حتى مع النفس، فمنظومات الشاعر تتعدد وتنشطر المدلولات بانشطار الأمكنة، ومن هنا يبث رؤاه بلا(حكمة) ثابتة:
((امشي احس ان تحت قدمي سماء تضطرب بكامل ضحاياها وفوق رأسي أرض توقفت عن الدوران)).
والشاعر الرحبي لا يضحي بالشكل الثابت للقصيدة العربية التقليدية عبثا، فنصه يستقيم في توتر المعنى، الصورة عنده تحيلنا الى (المراجل) التي تنفخ (نسيمها) على حياتنا، انه لا يتوقف عن ايقاد فكرة التنديد بالانهيارات وكل هذا في نسق تتمثله النصوص. المفردة عنده تبقى مسافة شائكة بين منابعها اللفظية وما استقرت عليه من مدلول في النص.توتر المعنى قاد الشاعر الى الكثير من الإفصاح: ((أحاول أن أكتب عنك، لكن الدموع تسبقني الى نهايات الكلام)). وقد تعثر على مقاطع لم تثقلها مهمة الافصاح فحسب بل تعثرت فيها اللغة وبدت ثقيلة تماما: ((وتجبرهم على المضي معها نحو أقاصي مجهولة)).
ان نصوص ((مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور)) تحاول أن تتمثل مفهوم شخصي للحداثة الشعرية، فالشاعر الرحبي بدا في أكثر من مناسبة جزعا، حين اقترب الحديث عن حداثة النص أو تفجير اللغة وعد ذلك نوعا من الاطناب والافتعال أكثر مما هو فعل متحقق. وحداثته وكما وصفها يوسف الخال: ((انها انفجار الوعي والحساسية الجديدة في تعبيرهما عن شفاء الانسان في غربته ومنفاه))، ففي النصوص مقاربة للاجتماعي والمعيوش لكن في لغة تبتعد عن التقليدية، والوصفية الإنشائية، فتنفتح بهدوء على المخيلة وتضع يدها على عناصر الدهشة الأولى التي يفترض وجودها في أي نص شعري.
الاحالات في نصوص المجموعة تتعدد، فمن المذاكرة الشخصية للأمكنة الى الأسماء التي يضعها عناوين للنصوص، فهناك (مبارك الرحبي)، (يوسف الخال)، و(رياض الصالح الحسين)، وغيرهم، فتتساءل أهي ضالة الشاعر في بحثه عن المنظورات الشخصية أم هي على الضد من ذلك، امتدادات لعلاقة (انا، هو، العالم)، الشاعر يضعنا عند العنونة فنقرأ منها مفهومات ورؤى وطرائق في المعيشة، حاول الاشادة بها فوضعها كتوطئة لنصوصه ومنها عبر الى داخله الذي يكاتبنا لاحقا.
كم من الشعر يكتبه الحنين؟
ما الحياة، ما الوجود، ما الرؤيا؟ هذه أسئلة في الدهشة، في الجذر الحياتي الذي يخفف على الرغم من محاولة وضعه في الهامش، كل ذلك بمجمله وضعنا فيه الشاعر عبر مجموعته ((رأس المسافر)) وفيه نصوص مكتوبة بمخيلة أكثر تحررا مما كانت عليه من المجموعة السابقة فنجد: ((وعما قليل التقي بالمرأة التي فرغت للتو من تقليم أظافر الكواكب)). وعبر تلك النصوص هناك افصاح أقل وتدعيم للشعرية، وابقاء لمسافة تحتمل الكثير من الأسئلة ((انفجرت))، هذه الطرق لا ينام فيها المسافر الا ورأسه مسنود الى معضلة)).
النص اذن أخذه الشاعر الى مستوى من الأداء الشعري السلس والمدعم بمهارة على التصوير، فهناك ((الذئاب التي طردها البرد من الغابات))، والنص مكتوب عنده بدأب شخصي فيه الحنين، والمكاشفة الرقيقة،مقابل وقائع تسرد بؤسها دائما ((سننتزع مجد هذه الليلة من حنجرة الوقت)). انه حين يرثي الأزمنة فهو يعتمد على روح تنفض رمادها لتطلع لجروح قادمة ((كل شيء يهرب من بين ايدينا ويتسلل الى جرح في قارة مهجورة)). وكل شيء يكتظ، ولا فرصة ولا طريق للنفاذ الا: ((الهرب مع قراصنة ينامون في الهدير)).
وإذا كان هناك حديث عن الحساسية الجديدة في شعر الرحبي، فهو يقترب من الدقة عبر نصوص مجموعة ((رأس المسافر)) حيث يجد تماثلات حقيقية عبر عناصر اللغة والمهارة التصويرية والمداخل التي وفرتها التجربة الروحية الشخصية لموضوعاته. وهنا ((في الانفاق السحيقة للألم الإنساني)) قال الرحبي ما لم يقله في مجموعته ((مدية واحدة)) فهو تخلى عن مهمة تصوير شظايا الواقع ليجد نفسه وبمعونة مخيلة نشطة ((مايسترو لجيش من المتسكعين وبرصاصة واحدة اسقط فضاءه صريعا في الغابة))، انه يقرأ في تسميات أمكنة ((ظلال موت محتمل))، وتلك ليست الأمكنة المتجذرة في الحياة او المفترضة في الذهن المجرد، هي أمكنة الشاعر الشخصية التي أصبحت دونما قصد، معادلا موضوعيا لنفيه وهجرانه.
ولأنه شاعر خارج الصورة النمطية، لا يقدم خطابه المضمر في شعرية النص، كأحكام نهائية، بل هي مقترحات بقدر ما هي ذاتية، بقدر ما هي خلاصة تجربة. من هنا يأتي عامل الانحياز لها.. بل انه يرى ان افضل تأجيل للمواجهة، وهذا ليس بالحل طبعا، هو: ((سأنام وأترك كل شيء للريح)) مخلفا ((بقايا فجر)) في غرفته وأيام كانت معشبة في الطفولة، ويلعب على ترنيمة في الحنين هي أكثر ايحاء من ترك الأمر للريح فيقول: ((هكذا انت خطوة وحيدة تدحرج زورقا في المغيب)).
حلم الوصول الى المكان
((رحمة بنا أيتها الجبال
بيقين مرابضك وشعلتك
لم تكوني سببا لشقائنا
لكنك من تملكين مفاتيح الرحمة)).
من مجموعة ((جبال))
إن قراءة منصفة لتجربة الشاعر سيف الرحبي، لابد وأن تتوقف عند عنايتها باقامة حوار خاص بين اللغة والمكان، مكان الاقامة، الترحال، موجوداته، ملامحه، ودائما من جهة متغيراته الإنسانية، لا من جهة ثباته كملامح طبيعية. وفي مجموعته قبل الأخيرة ((رجل من الربع الخالي))، دار الجديد بيروت 1994. تتضح ملامح ذلك الحوار بين الشاعر ولغته من جهة وبين المكان ومعطياته من جهة أخرى. وكانت نصوص المجموعة، نوعا من التراسل ما بين الشاعر كحصيلة وخبرات مكتسبة من المعيوش في الهجرات. وبين تلك الأمكنة التي غادرها الشاعر، وكأنها كانت تدعوه للعودة والانتهاء من خيبات شخصية وأخرى موضوعية تتعلق بالمسار العام لوقائع العالم المعاصر ومنه منطقتنا، ناهيك عن صورة الأزمنة العاصفة بالمعنى الانساني كوجود وتواصل.
المكان كان يتخذ طابعا حلميا، غير ان لغة الشاعر حافظت على تكوينها الذاتي، دون ان تتماهى. على الرغم من بواعث الحنين. مع مساحات المكان وامتداداته، وجاءت في سياق اقامة مكان متخيل، غير انه يظل قائما على ملامح أرضية. مكان يجرحنا بوحشته، ويدهشنا للسحر الخفي الذي تتركه الأفعال الإنسانية في مساربه، وتشتاق للدخول في تفاصيله لما نجح الشاعر في رسمه وتكوينه لغويا وروحيا، وبات الوصول اليه، حلما جميلا بإمكانه هدهدة الفزع في النفس التي اثخنت بجراح وقسوة الهجرة، وعناءات تنشط في كل اتجاه.
وفي مجموعته الشعرية ((جبال)) نجد نصوص الفصل الآخر وقد يكون الأخير من العلاقة بالمكان. اذ انها مكتوبة بعد عودة الشاعر سيف الرحبي الى وطنه واقامته فيها. وقد تكون هذه الإشارة من خارج النص، فالمعنى والدلالة من الممكن ان يكتشفها المتلقي ببساطة.
((بماذا نصف انفسنا، وسط هذه الرمال الزاحفة/ متكئين على ساعد الخسارة/ لكنا لا نفرط في شبر من حضارة الأجداد/ هكذا يقول الخطيب الذي يدحرج الحقائق من فمه/ كالجرذان)).
وهذا المقطع المأخوذ أصلا من أطول نصوص المجموعة ((هذيان الجبال والسحرة)) والمشغول بعناية لتوصيف ما اراد الشاعر الوصول اليه في تفنيد سطوة المكان حيث تحطمت على ملامحه الجرداء هواجس الحلم وبواعثه الاساسية، وعلى الرغم من تلك السطوة في حضور المكان و((جبال وشواطئ وآفاق صحراوية))، نجد الشاعر في ثنائية ناجحة يقيم المعادل الموضوعي عنده لتلك السطوة، وذلك يكون عبر (الغياب) الذي يفتت المكان وحجارة جباله، ليغدو الغياب ممرا الى اشتعالات الشاعر ومشاعر يأسه وغضبه ايضا. ويغدو فعلا انسانيا معادلا لسطوة المكان وحضوره الضاغط:
((لقد ذهبوا بعيدا صوب أنفسهم
وذهبوا في الوحشة)).
وقد يصبح الغياب، نفيا داخل المكان، لا الرحيل والابتعاد عنه.
((أهلا الذين تغيرت أحلامهم ولياليهم وصاروا غرباء يلوذون بجريد النخل أيام الجمع كأنما لآخر تعويذة تقيهم الاضمحلال)). وفي نص آخر يقيم الشاعر مقاربات شخصية لحلمه بالوصول الى المكان ومن ثم انكسار ذلك الحلم، ويبدأ من مغادرته الأولى وافتراقاته عن المعاني السائدة فيه والتي تحكم العلاقات والمنظورات على المستويين الطبيعي والانساني.
(( ماذا تفعل في هذه البلاد؟/ ستة وعشرون مرت/ وأنت تذرع الأفق بقدم مكسورة/ ورأس غارق في الجحيم/ بداية الرحلة/ ستحلم ان هناك مستقرا وكتبا/ وربما ثورات تقلب وجه العالم)). وحين تتصاعد ملامح الخيبة هنا. في المكان، وعبر مراجعة قاسية مع الذات، يعمد الشاعر الى استحضار وقائع وأفعال تدل على نوع من العناد والمناكدة التي تؤكد الفاعلية الانسانية وقدرتها على التخفيف من وطأة الإحساس بالخيبة.
((هكذا/ من غير أحلام ولا معجزات/ موجودون في أرض الله والبشر/ الأرض.. يكفي انها تتسع لسرير وقبر/ وبينهما ضحكة سوداء/ ولكن قبل ذلك/ هناك طرق طويلة تفضي الى ظلمة/ تنفجر منها مياه وبساتين)).
ويستخدم الشاعر لغة وصياغات تحسب له، فهي اذ تشتق دلالاتها وحتى الأنساق التي تظهر فيها، لا تأتي من انتقائيات وتجريدات،بل من مشهد الأزمة وبؤرتها الفاعلة، انها لغة تختزل دلالاتها بتكثيف شديد مرة، فيغدو النص، بضعة سطور قليلة، او تتخذ شكلا سرديا، تنشط فيه اللغة وتجهد في العناية بالتفاصيل دونما تهدل وتحتفظ بقابليتها (الشعرية) دونما السقوط في (نثرية) تستدعيها تلك التفاصيل السردية:
((شربنا مياه العالم ودمه ولم نعد نبكي.
لم يعد ذئب الفلاة قادرا على النحيب كما في الماضي، صار يشتم الدم المتيبس على سفح الكائن ويرد الآبار ولا يتذكر شيئا من ماضي الفريسة والجبال والمدن التي تناسلت فيها السلالة، صادر يعتكف متأملا ذريته الضارية)).
هكذا تتضح الحقائق لتحيل الحلم الى بواعثه، الى الحنين الذي قاد الشاعر لمعاودة ضجره ومن ثم يأسه،الى العودة التي أكدت حلم الوصول.
((أنظر خلف سور الحديقة المهدم فأرى ايامي هاربة/ كأنما من جيش عدو غامض)).
الرأي – الأردن   الجمعة 31/7/1998