باسم المرعبي
كان الجندي رسول حرب
التقيا علي منعطف القلب
علي منقلب الصدفة
طائر جريح وجندي مهزوم
لا لم يكن مهزوما ولا منتصرا
كان الضمير الخبيء لحروب البشر والالهة
النغمة الشاردة لناي مكسور
حمل ارثها من بابل وفرعون حتي عصور الذرة
كما تحمل السحب اثقالها في الازمنة
والمحيطات
حمل سر الامانة (1)
الكتابة.. اللعب الشاق
مع كل كتاب جديد للشاعر العماني سيف الرحبي يتأكد لدي الاحساس بوطأة الشعور وهاجس الفجيعة الذي تصدر عنه كتابة هذا الشاعر ورؤيته التي تقترب من التشاؤم، في اغلب الاحيان، إن لم تكن في لبه، وهو يري الي عالم شارد في ظلامه و يوغل اكثر في ابتكار ادوات الرعب والموت والتفنن فيها (2) غير ان تشاؤم الشاعر هو تشاؤم مسؤول، ان صحت التسمية، مخترق بضوء الشعر الذي يسعي دائما الي محاولة تدارك عالم يزحف الي الهاوية.
من هنا يجيء تعليل الشاعر لمعني الكتابة ودورها في شهادة له، وهي واحدة من شذراته النثرية التي يمارسها بموازاة القصيدة، ان لم تكن مثل هذه الشذرات بذاتها تكتنز الكثير من طاقة القصيدة وضوئها، يقول: الكتابة بهذا المعني ليست لعبا لفظيا ولا صورا بهلوانية تتوسل الادهاش البراني لاخفاء فقرها الدلالي والروحي، انها لعب اكثر عمقا وخطورة وجمالا، انها الاقامة في حدود القسوة والموت (3). بمثل هذا الوعي، يكتب سيف الرحبي قصيدته، ليكون الانشغال بالمصير الانساني وما يحيق به، الملمح الاهم ف يتجربته، ليتوزع هذا الهم نتاجه شعرا ونثرا علي حد سواء، ومنذ مجموعته الاولي المسماة نورسة الجنون الصادرة في دمشق عام 1980:
مؤكدا أننا ماضون نحو النهايات المحتومة
لهذا الرعب الجليدي
الذي تقوده رياض الاطفال
وفرق الانشاد الوطني
بهذه الموسيقي تلعق الدم
مثل ضباع المسالخ
مجزرة تتزوج اخري
وقتلة يمسحون الشوارع
من اثار الدم العالق
في أهداب القمر
ايها الرجل الجالس علي جفن روما
تقرأ بازوليني وتفكر
ها هو نيرون قادم بعصافيره
واقفاصه الذهبية (4)
عبر هذا المقطع نلمس اشارة من ضمن اشارات اخري كثيرة الي قتامة المشهد الذي نحياه وقد نسجته، عبر عقود، اصابع طغاتنا (الوطنيين). اشارات تبثها رؤية الشاعر، وهي رؤية لا تتجزأ، سواء في الكلي او التفاصيل. اذ ما من متسع لاغفال اي تفصيل او هامش في طريق القصيدة، طالما تسير بعينين مفتوحتين وبارادة تعي ما تريد، وقد اخذت علي نفسها مهمة الكشف او التعريض بكل مظاهر الاختلال، وبذلك لا تنتدب القصيدة نفسها لرسالة خارجية او مدعاة بقدر ما تشير عند سيف الرحبي الي التفات وانتماء الي الداخل ليمعن فيه، وعند هذه النقطة تبدأ القصيدة، او تبدأ واحدة من اهم علاماتها الدالة عليها في انصات حميم الي الذات والعالم وهو يشرئب في جمر جماله المتقد، او في حال تخبطه في رماده الاعمي.
واذا كنا نستطيع تسمية بيئة ما في نتاج سيف الرحبي فهذا صدي طبيعي لتجليات هذه (البيئة) في قصيدته، او من خلال الاشارة اليها مباشرة في شهاداته النثرية التي تقدم الكثير من التفاصيل وتسهم في اضاءة عمله الشعري وافقه او تسمية جذوره أي مرجعيته في كثير من الحالات. ان الامساك بملمح بيئوي في هذا النتاج، يمكن ان تكون له خصوصيته، اذا كان موظفا او مستشرا بطاقة شعرية، تنطلق فيه من اساره المحلي الضيق، ليندغم في الافق الانساني، كما في قصيدة: الجبل الاخضر (5) التي اضحت عنوان مجموعته الثانية كذلك(6)، مثلما صار الربع الخالي(7) عنوانا لمجموعته السادسة.
إن المرجعية التي تحدثت عنها قبل قليل، لا تقتصر علي ما هو جغرافي، بل هي قبل كل شيء هواجس وروح يصدر عنها مجمل نتاج الشاعر. في شهادته ذاتها التي اعتمدتها من قبل الصيد في الظلام الكاسح (8) يقول سيف الرحبي: “هكذا وجدت نفسي جزءا من جيل عربي يقتسم سمات الكتابة والحياة والترحل، جيل غير مستتر بالطبع هائم بين ثكنات الافكار والشرطة والمدن، تلفحه رياح اليأس والنقض والتسكع، لقد فتح عينيه ذات صباح علي هزائم وانهيارات لا تحصي” ليس غريبا ان نري قصيدته من خلال هذا الحقل، حقل الهزائم والخيبات والانكسارات، وهي بلا شك، تعبير كما عند البعض من مجايليه، عن روح جيل حوصر بالحروب الداخلية والخارجية والمؤامرات، جيل كان جديرا لأن يقود رياح التغيير والتفجير في المجتمع والسياسة، لا ان يكون مطاردا ومهمشا بسبب احلامه هذه. في مثل هذا الخضم من الطبيعي، ان يكون نتاج هذا الجيل، عموما، وغضب يكنس في طريقه كل شيء، غضب، ربما ينحاز الي اليأس والرغبة في التدمير، بعد كل هذه الزنازين التي عمرت لأجله:
“لم نعد نحمل حقائب الشعارات المليئة
بفئران ميتة ولغات فقدت ذاكرة الامطار
فوق شطرنج الهزيمة
لم نعد نحمل غير نيترون الشعر
وقمح الانكسارات النابت فوق جبال الروح..” (9)
وفي قصيدة اخري يقول:
“علي ان ادحرج الكواكب والاسطبلات
وأسوق المدن والجنرالات مثل
قطعان الماشية
صلفا بانتصارات يحققها طائر في نومه
فالحرب نزهة اقوم بها في جنائن الرغبة
اوجه اوامري من فوق منبر الجحيم
المحنط بخطيئتي
حيث يخرج طغاة التاريخ يتقدمهم قطار الموسيقي
وبين فاصلة واخري تباد امة” (10).
إن استكناه روح التمرد والغضب علي واقع فاسد، ليس دليله التعبير المباشر او شبه المباشر، في المقطعين السابقين، بل ان الشكل الكتابي عموما، يغدو بحد ذاته نوعا من الاحتجاج علي هذا الواقع بسبب غرابة الصورة بسخائها السوريالي، وعبر طاقة السحرية السوداء التي تحفل بها كتاباته، وهذا هو الاهم، اذ ان ذلك يشير الي ارضية راسخة، تقف عليها تجربة الشاعر برمتها، او تنطلق منها وليس احتجاجه او “ثوريته” هذه مجرد سحابة عابرة تتقاذفها رياح الدعاية او الضرورات الآنية. ان قوله الشعري مجردا يثبت ذلك، وها هو يراكمه ويعززه قصيدة اثر قصيدة، وكتابا اثر اخر، معمقا في الوقت ذاته، نهجا واسلوبا يدلان عليه، وكأن قصيدته تسري نضجا وتبلورا مع الزمن، دون انعطافات او تحولات جادة في التقنية، بل علي العكس هو العمل علي تعزيز قصيدته “الشخصية” ذاتها التي ابتدأها بمجموعته الاولي وواصلها حتي ديوانه الاخير: “الجندي الذي رأي الطائر في نومه”.
شاعر في اللامكان
ينزع سيف الرحبي في شخصه وشعره الي نبذ المكان بحدوده المسماة وتعينه الجغرافي، يشي بذلك شغفه بالانتماء الي اكثر من مكان في الوقت عينه كما انه يريد من مكانه الأني نسخ المكان الذي قبله، بل انه يطمح لان ينسف المكان بكليته، عبر توحد انساني، يعدو هو البديل او هو المكان المنشود. انه هروب لا يريد له ان يظلله فيه سوي سقف الشعر، وتشرد يكون هو قصيدة الحياة المكتوبة عيشا بالروح والجسد.
ومثل هذه القصيدة، غير المحدودة، كالحلم، تتطلب ارضا، غير محدودة بدورها اذ يجيء التشرد او السفر والذي يشكل عنصرا مهما وبارزا من عناصر تجربة سيف الرحبي . وأنت تقع علي هذا الشيء اي السفر وابتداء فكرته، بشكل مفصل في كتابه: “منازل الخطوة الاولي” “وقد كانت بمثابة بؤرة الاشعاع في الكتابة” وعن ذلك يقول: “الخطوة الاولي في نظري هي الاكثر خطورة في تاريخ الانسان” . (وهكذا فقد قادته خطوته تلك وهواجسه الي الرحيل نحو وفي اماكن شتي ربما بحثا عن زمن او مكان ما) (31).
وعدا عن الفهم الوجودي للاغتراب، فان “غربة” الشاعر المكانية كانت رافدا مهما لتنوع وغني قصيدته، وهو بذلك، يأتم بأبي تماما ـ حبيب بن اوس ـ حين يقول: وطول مقام المرء في الحي مخلق لديباجيته فاغترب تتجدد، وقد اعطت اسفاره واقاماته، بعيدا عن المنازل الاولي قصيدته جدة ونضارة، هي قبل كل شيء نضارة الشعر، اي ان مثل هذه التجارب لا تستطيع بحد ذاتها، ان ترفع من شأن اية قصيدة او عمل فني، ما لم يكن هذا العمل، مؤهلا اصلا لان ينتمي الي الفن بشروطه الجمالية العالية، غير اليسيرة.
طائر جريح وجندي مهزوم (14)
خلاصة رؤية الشاعر للعالم..
تحتل موضوعة الحرب حيزا واسعا في مجمل تجربة الشاعر سيف الرحبي بل استطيع القول ان تجربته هذه تقوم علي محورين اساسيين الاول: الحرب وما يتصل بها او يؤدي اليها من اثار وتفاصيل، والمحور الثاني: هو الحب بمفهومه الواسع وما يشتمل عليه من علاقات وبما يعنيه من جمال وصلات انسانية وفرح، وصولا الي خصوصية او “خصيصة” العلاقة بالمرأة جسدا وقلبا.
ولأجل ان يجد هذا الكلام صداه، تطبيقا، فان المجموعة التاسعة للشاعر ـ مدار هذه الكتابة ـ وأعني بها مجموعة “الجندي الذي رأي الطائر في نومه” هي مثال ساطع لهذا، فهي تزاوج بين هذين الموضوعين الكبيرين اللذين يزنان العالم ويوازنانه.
ان مثل هذه الثنائية حجر اساس، قامت عليه الكثير من الاساطير والفلسفات والرؤي حتي يومنا هذا، غير ان قصيدة سيف الرحبي هي ليست تنظيراً او تحضيرا معدا بنية مسبقة بل هي فكرة الشاعر التلقائية وهاجسه الاساسي في عمله الشعري والثقافي عموما، مدعما بوعيه وانحيازه الانساني ضد كل صنوف القمع والتخريب والحروب.
القصيدة ـ النشيد
شغلت قصيدة الجندي الذي رأي الطائر في نومه والتي شكلت القسم الاخير من المجموعة ـ ثلاثين صفحة كاملة، اي ما يعادل ثلث الكتاب تقريبا، وهذه القصيدة ارادها الشاعر تلخيصا لرؤاه في ما يخص موضوعة الحرب التي أرقته علي مدار اعماله السابقة، فجاءت ـ القصيدة ـ كسرة شعرية لارضنا المثخنة بالقتل والحرب منذ واقعة قابيل وهابيل مرورا ببابل ومصر ثم البسوس وصولا الي عصر الذرة. تاريخ شعري اذن، هو الذي يعتمده الشاعر عبر عمله هذا، تاريخ خاطف، بطبيعة الحال لكنه يتمعن بجرحه بؤس الانسان وسقوطه في بركة الفجيعة والدم، وقد سهل اختراع الشاعر لشخصية الجندي، الذي رمز به الي روح الحرب والنزاعات والطائر الذي كان يمثل الحياة، سهل مهمة التقصي والالمام بتاريخ العالم الدامي عبر تنقلهما وطيرانهما في رحلة رمزية، تفقدا خلالها مواقع الجريمة، جريمة قتل الانسان بالانسان، منذ ادوات القتل البسيطة، المتمثلة بالحجارة والمدية والفأس حتي التهديد الماثل لشبح الشر المروع بسحبه النووية:
مضي بصحبة الطائر
في ليل وحدته
بعيدا عن الثكنة
بعيدا عن الجماعة
في الفضاء رأي حروبا اخري
رأي ثكنات نسور واوبئة
شاهد المجرات تمخر ليلها السرمدي
وتحتل مجرات اخري
او تبيدها كرماد تسفه ريح
رأي العنقاء تحلق فوق المرتفعات
وعلي مناقيرها الجثث
لكنه لم يسقط
ظل متماسكا
بقلبه وريش احلامه البسيطة
لم يسقط في بحر السلاح الهادر المجموعة: 66 ـ 69
تتشكل هذه القصيدة من صوتين، هما صوت الجندي وصوت الشاعر ـ وقد يتداخلان ـ وما بينهما الطائر الجريح، شاهد علي الجريمة والواقعة (الجندي الذي يصفه الشاعر بانه الضمير الخبيء لحروب البشر والآلهة) وهذه الاخيرة، هي ليست احالة الي الميثولوجيا التي تحفل بوقائع صراع الآلهة، كما عند الاغريق او الرافدينيين، بل تصلح لأن تكون كناية عن “الهة ميثولوجيا” حديثة تتمثل بأرباب الشركات العملاقة وتجار السلاح والطغاة الذين اتاحت لهم سلطاتهم غير المحدودة التحكم برقاب البشر في اكثر مما كان.
اراد الشاعر لهذا الجندي، ان يكون ايضا، ذاكرة الحرب، كما انه، في الوقت ذاته اداتها وضحيتها، ومثل هذه العلاقة هي علاقة متشابكة ومعقدة، اذ ليس من حدود واضحة بين كل هذه الادوار، ووربما تختلط في ما بينها وتمتزج في بعض المواضيع كما اشرت من قبل بالنسبة الي تداخل صوت الشاعر والجندي:
علي ان ابعثر اشلاء اللحظة
واسوق الجيوش الي حتفها
كجندي يستعيد يوم حربه
الجندي الذي رأي الطائر في نومه
فانتشله من بركة الدم المجموعة: 63
يذهب الشاعر الي التأكيد علي ان في كل منا تسكن الحرب وتزحمنا بحضورها، سواء بوقوعها او ترقب هذا الوقوع، وهو ما يجعل الحياة فرصة او فسحة متاحة، فقط، بين ظلال الحروب التي تتقاطع مع احلام البشر وتطلعاتهم، وتعيقهم عن الالتفات الي التفاصيل، الحميمة التي تشكل بالتالي الحياة بكل بذخها وبهائها:
كان علي ان اكتب في مديح خصرك
المتلاشي في الاماسي الناعمة علي الضفاف
ان اصف ايامنا الجميلة
كان علي ان اكتب
عن الصباحات التي تسيل علي الوجنتين
عن الخلاخيل الفضية والرؤي والاساور
اكسسواراتك المفضلة
عن الموت الذي يشيد ابراجه عاليا
عن اللمسة الحانية
والرغبة المحتدمة بين عشيقين
لكن الجندي استلني من احشائك المجموعة: 88 ـ 89
هذه الفسيفساء الحية من الانشغالات الحياتية تلقي بها الحرب الي وهاد الوحشة والتصحر، وتستبدل بوح العاشقين وصوت الاساور في يد المرأة، بالدوي المروع لانفجار حقد الانسان وكراهيته ليتسيد الغبار كل شيء.
هذه هي الحرب كما يقدمها سيف الرحبي تقطع علي الشاعر قصيدته وعلي العاشق لحظة شروعه بالقبلة.
إن الجندي الذي رأي الطائر في نومه القصيدة النشيد ـ تنشئ تاريخها وجغرافيتها الخاصة بها، وبقدر ما تكون الامكنة مشاعة وكذلك الازمنة التي استثمرتها القصيدة، فانها بالمقابل قد اضحت من ملحقاتها الخاصة بها، وذلك عبر اضطلاعها بوظائف وأدوار جديدة اسبغتها عليها القصيدة.
ثلاثة ابواب وثلاث قصائد
انتظمت قصائد المجموعة عبر ثلاثة ابواب رئيسية هي:
1 ـ البحيرة المسحورة التي غرقت فيها اخيرا، وضمت احدي عشرة قصيدة.
2 ـ بعصا الاعمي في ظلام الظهيرة، وتضمن اربع عشرة قصيدة.
3 ـ الجندي الذي رأي الطائر في نومه، وهو عبارة عن قصيدة واحدة، طويلة، كما اشرنا الي ذلك من قبل، لكن في الوقت نفسه، عمد الشاعر الي استهلال مجموعته بثلاث قصائد هي: 1 ـ ضربة شمس 2 ـ اشجار ترحل 3 ـ ذكري، دون ان يدرجها تحت اي عنوان رئيسي كما فعل مع بقية القصائد.
وعدا عن القسم الاخير ـ الذي فصلنا الحديث فيه ـ فاننا نستطيع ان نميز شاغلين أساسيين في مجموع بقية القصائد الثماني والعشرين هما: 1 ـ شاغل الحب. 2 ـ شاغل التأمل، في تقنية اثيرة لدي سيف الرحبي هي ما يشبه المذكرات، او السيرة خصوصا كتابته التي تستدعي المرأة ـ اذ دائما ثمة امرأة في متناول ذاكرته او قصائده ـ تتسيد اهتماماته المبثوثة علي امتداد اوقاته.. امرأة في مختلف حالاتها، فقصائده لا تتهيب الاشارة المباشرة او تسمية الاشياء في خليط صور وكلمات تلاحق الانثي بانشداه واصغاء لمشهديتها العابقة بتفصيلات هي من فضائل الانثي:
“تسيرين باصبع عار من خاتم الزواج
كنت البحيرة التي تحلم بها الريح
·        * *
تغلقين الابواب كلها
كي افتح بابا او نافذة
اطل منها الي كهفك المظلم
الي كنوزك الخفية
حيث تتدلي الاهلة والسلال
باثمار ناضجة المجموعة: 22 ـ 32
انشغلت قصائد الباب الاول من المجموعة البحيرة المسحورة التي غرقت فيها اخيرا بشكل كامل بمخاطبة المرأة ناشرة جوا حسيا في الغالب.
إن البحيرة السحرية هي الجسد الانثوي، ومن اعماق هذا الجسد تطلع كلمات الشاعر مضرجة بوحا وانخطافا وعرفانا:
اللقية الباذخة
للجسد المجبول بالنسيم
وللمتسكع في ليل الاعضاء
يرشح دم الرغبة
بحثا عن النبع المسترسل في
هذيان الغابة
* * *
اسقط في هاويتك السعيدة
مشدودا بقوس الجسد الضاري
“ما كنت اعرف
ان يومين، يومين فقط
سيأخذان روحي
نحو صيف الابدية” المجموعة: 23، 30، 31 علي التوالي
ان تسمية بعض القصائد، بقصائد حب، واخري بقصائد تأمل علي سبيل المثال لا تعني فصلا او عزلا مطلقا بين موضوعات القصائد في هذه المجموعة، او مجمل نتاج الشاعر، بحيث تنغلق هذه القصائد علي موضوعاتها وكأنها مسخرة لاغراض لا تحيد عنها، ان الامر ـ هنا ـ لا يعدو كونه التقاط السمات الابرز في القصائد التي استدعت ان تنظم في هذا، او ذاك من ابواب الكتاب، وهذا التقسيم علي اية حال، ليس تقسيما برانيا متعسفا، بقدر ما يشير الي ما تعكسه او تفصح عنه قصائد المجموعة ذاتها.
ووفقا لهذا فان قصائد القسم الثاني المعنون: “بعصا الاعمي في ظلام الظهيرة” ـ والعنوان بذاته يشير الي تنقيب او بحث ما ـ قد اتخذت منحي تأمليا، وهو عادة ما يكون لدي الشاعر مشوبا بأسي ضروري، حين لا يكون في متناول قصائده الا مثل هذه المشاهد:
هذه الارض
التي تئن تحت احذية الجند
وثقل الصيارفة
قد مشي عليها ذات يوم
شعراء مرهفون
وملائكة خضر
مشت عليها النسوة والوثنيات
والرجال البدائيون المجموعة: 37
كما ان قصائد: “غياب” ، “يمامة” و”عرين سماء مقفرة” تصلح جيدا لأن تمثل الاتجاه التأملي في هذا الباب، لانها كانت اكثر اضطلاعا به وتكثيفا.
وفي نهاية المطاف تبقي مرجعية هذه القصائد كما اغلب نتاج الشاعر هي فانها رغم تعدد اطوار ووأدوار هذا النتاج، فكتابته متحدة ومتفقة علي رؤية يلفها اليأس والحزن في عمومها، حيث الهزائم تتوالي منذ ان ادركت هذه الكتابة وجودها، ويستوي في ذلك ما هو اني او كوني، حيث عالم هرم، يزحف الي نهاياته المحتومة مشيعا بأسي ورثاء الشعراء.
وسيف الرحبي هو احد هؤلاء الشعراء، اذ يكاد يوقف كل نتاجه تطلعا وامعانا في ارض مثخنة تتداولها اكف الحروب وامزجة الطغاة.
*  شاعر من العراق يقيم في السويد
الهوامش:
1 ـ سيف الرحبي، الجندي الذي رأي الطائر في نومه ، منشورات الجمل، كولونيا: المانيا، 2000.
2 ـ سيف الرحبي: الصيد في الظلام الكاسح ، مجلة نزوى العدد: 22 (ابريل) 2000.
3 ـ المصدر ذاته، اعلاه.
4 ـ سيف الرحبي، نورسة الجنون (مختارات)، ضمن معجم الجحيم دار مشرقيات، القاهرة، 1996.
5 ـ الجبل الاخضر (موضع): سلسلة جبال ضخمة في عمان. الجبل الاخضر (الكتاب): دمشق، 1981.6 ـ لكن في الوقت ذاته تخفق بعض قصائد الشاعر، في استثمار ما هو آني والارتفاع به عن محدوديته و نفعيته عندما تكون هذه القصائد موجهة لغرض ما، كما في قصيدتي: مكيف هواء من مجموعة رجل من الربع الخالي بيروت 1994. و زيارة من مجموعة جبال الصادرة عن المؤسسة العربية، بيروت، 1996 والتي سأوردها بنصها هنا:
“لا يطرقون الباب
ولا يستأذنون
يدخلون هكذا، كل يوم
كانت ريح خفيفة تسبقهم
كأنها نفثة مسحورة فوق بحيرة
يشربون ما تبقي في الثلاجة
ويغادرون” .
7 ـ سيف الرحبي، رجل من الربع الخالي، دار الجديد، بيروت 1994. وقد سبق لي وان كتبت عن هذه المجموعة الي الصفحة الثقافية في جريدة الحياة في نفس وقت صدورها. بالاتفاق مع الشاعر عبده وازن، حينما كنت في بيروت، ولم يتيسر لي الاطلاع، علي الجريدة، وقتها ولا ادري ان كانت قد نشرت هذه المادة، ام لا؟
8 ـ مصدر سابق.
9 ـ قصيدة: الاقطاب الغامضون، من مجموعة: اجراس القطيعة، الطبعة الاولي، باريس 1984، (دون ذكر دار النشر).
10 ـ قصيدة: الارخبيلات البحرية، من مجموعة: اجراس القطيعة.
11 ـ باسم المرعبي: ترميم الحاضر (مقال عن منازل الخطوة الاولي)، مجلة الناقد، العدد 64 تشرين الاول (اكتوبر) 1993.
12 ـ سيف الرحبي: منازل الخطوة الاولي (سيرة المكان والطفولة) كما يتضمن الكتاب، نصوصا شعرية. دار سعاد الصباح، القاهرة، 1993.
13 ـ باسم المرعبي: ترميم الحاضر ـ مصدر سابق.
14 ـ طائر جريح وجندي مهزوم ترد هذه الجملة في قصيدة: الجندي الذي رأي الطائر في نومه، اي المجموعة التي تحمل الاسم ذاته (مصدر سابق).