صبحي حديدي
قبل مجموعته الجديدة ((يد في آخر العالم)) (1) كان الشاعر العماني سيف الرحبي قد أصدر تسع مجموعات شعرية خلال أقل من عقدين، فضيلة هذه الغزارة النسبية في انتاج وكتابة الشعر انها توفر لدارس الشعر العربي المعاصر فرصتين في آن معا: رصد تطورات المسار الشخصي لشاعر دؤوب انضوى منذ البدء في صف قصيدة النثر وساهم ويساهم في صناعة المشهدية الشعرية الراهنة من هذا الموقع تحديدا، وربط هذا المسار الشخصي بالتطورات الأعرض لحركة الشعر العربي الخليجي حيث يلوح ان الانحيازات الطاغية الى شكل قصيدة النثر ترتب جملة من المؤشرات السوسيولوجية الخاصة الى جانب تلك المؤشرات الجمالية العامة التي تقترن عادة بمحاولات رسم خرائط قصيدة النثر العربية وتأصيل سلالاتها.
هذا من حيث المبدأ.
غير أن نموذج سيف الرحبي (وأكثر منه نموذج الشاعر البحريني قاسم حداد في الواقع) لا يسلم القياد لهذا التخطيط المنطقي شبه الحسابي، الذي قد يحاجج ببساطة أن المبدع ابن بيئته، وأن مكونات مخيلته مصنوعة من المكونات الطبيعية لتلك البيئة، فضلا عن آثارها التربوية والادراكية والسيكولوجية والجمالية وما إليها. وليس في وسعي، شخصيا، أن أدرج شعر الرحبي في الخانة الابداعية التي اختار لها الناقد السعودي عبدالله نور تسمية ((ثقافة الصحراء))، تلك التي توجز تفاعل المبدعين الخليجيين مع ((ذلك العالم السديمي الممتد بغموضه ورهبته وتقلباته، عالم الرمل الراحل أبدا)) والصحراء الجرد، والمطر الشحيح الذي لا يعرف جدولا ثابتا، المطر الذي يأتي ولا يأتي)).(2)
وهكذا قد يصح ان سيف الرحبي رجل من الربع الخالي، كما يقول عنوان مجموعته السادسة، ولكن هذه الدالة الجغرافية ليست بالضرورة دالة ميكانيكية على شعرية صحراوية ومخيال بدوي وعوالم سديمية رملية، التخلص المبكر من عبء ((الموقعة)) هذا يسمح باستخلاص نتيجة تالية تقول ان شعر الرحبي كان وما يزال جزءا تكوينيا لا يتجزأ من مشهد التجديد الشعري العربي في المراكز المدينية(العراقية والسورية واللبنانية والمصرية مثلا)، وليس في البيئات الخاصة التي تسمح بولادة وتنشئة وتطوير مخيال ذي خصائص محلية نابعة من مكونات المكان الطبيعي تحديدا (كما هو حال العديد من الشعراء الخليجيين الذين يندرجون بسهولة في مصطلحات مثل ((ثقافة الصحراء)) والجماليات الشفوية و((وحي الصحراء)) )، وقادرة على منافسة المخيال المديني عن طريق اجتراح عشرات المقترحات الشعرية المتميزة، هذه التي لا تقوم في نهاية الأمر بما هو اقل من تنشيط التفاعل بين المركز والأطراف، واغناء الحركة الشعرية الأعرض  لأبناء اللغة الواحدة.
وقد يكون التوصل الى هذه النتيجة مدخلا لتلمس أهم خصائص شعر سيف الرحبي في واقع الأمر: انه رجل من الربع الخالي، ولكن شعرياته ليست وليدة الربع الخالي! وكدلالة شكلية أولى، مستندة أيضا الى حقائق بيوغرافية، نعرف ان مجموعات الرحبي صدرت من دمشق وباريس والدار البيضاء وبيروت وابوظبي والقاهرة، ليس لأن دور النشر تعمل من هذه العواصم فحسب، بل ايضا لأن الرحبي قضى ردحا طويلا من الزمن وهو بعيد عن ((منازل الخطوة الاولى))، كما يقول عنوان مجموعته الشعرية الثامنة، وليس من المدهش على النقيض، مما أراد الرحبي أن يوحي حين اعتبر هذه المجموعة ((سيرة المكان والطفولة))، ان القصائد هنا تتحدث عن القاهرة، وطنجة، والجزائر، ودمشق، وفي واحدة من قصائد هذه المجموعة، ويحدث أيضا انها تصف مشهدية رعوية بدوية، كتب الرحبي:
محدقاً في الحشد الهائج
بثغاء أغنامه وتجاعيد نسوره
راحلين نحو القرى المتاخمة لخط الأفق
ساحبين وراءهم تيه الجبال
وهاويات لا قعر لها.
راحلين دائما…
وحدها ذئاب الصدفة تعرف
مطارحهم في المرة القادمة.
هي بالأحرى، شعرية مترحلة تتحرك جيئة وذهابا في عدد- متغاير أبدا- من خرائط الجغرافيا (الرعوية مثل المدينية، والأليفة مثل الوحشية)، وخرائط التخييل (حيث ليل امرئ القيس وليلة حمى المتنبي ومرايا القفار تارة، وبستان دستويفسكي وقبر هنري باربوس وطيور هتشكوك طورا)، فضلا عن تضاريس الموضوعات والاساليب واللغات في قلب هذه الخرائط دائمة التجاذب. والاشارات السابقة مستمدة بأكملها من عناوين قصائد الرحبي وليس من متون شعره، وهي أشبه بعلامات دلالية صريحة إذا تقاعس دارسه عن تلمس نظائرها التركيبية الاكثر تعقيدا في الأغوار الأعمق من القصائد ذاتها.
ومنذ ((نورسة الجنون)) مجموعته الاولى التي صدر عام 1980، كشف سيف الرحبي قسطا كبيرا (ومتعددا في الواقع) من أوراق معادلاته الشعرية التي ستتطور ببطء منهجي مرة، وبتسارع نزق مرة أخرى، ولكن بوفاء عنيد لدينامية الترحل في معظم المرات. ومثل ابناء جيله شعراء تلك الحقبة في المراكز المدينية العربية الكبرى، كان الرحبي يكشف الكثير من احتقانات الحيرة التعبيرية بين قصيدة نثر شقت طريقها الى الشعر فصاغت شعرية جديدة رحبة، وبين نثر وقع شيئا فشيئا في ربقة الهياج القاموسي والانفلات الدلالي.
ومثل سواه من الشعراء كان الرحبي يتحدث عن ((أقاليم النواح)) و((الأعضاء الوثنية)) و((رحم المسافات)) و((زعيق الأقاصي))، و((ترسانة الصراخ))، كاشفا بذلك معضلة العجز عن ((ضبط)) التوازنات بين حرية الشعر العسير وعبودية القاموس اليسير، بين المادة التعبيرية في الشعر والمواد الخام في القاموس، وبين التركيب التصويري الذي يشد حين يداهم حصون الدلالة المستقرة والحشو التوليفي الذي ينفر حين يرصف دون أن يربط.
ولكنه، في الآن ذاته، كان يعلن العناصر المبكرة الاولى من شعرية لاح انها عازمة على الاستقلال، مستقرة في القبض على التوازنات الخفية بين معدلات المجاز وحركة الجملة وعمارات السطر الشعري و هندسة المقطع، أليفة الى حد ما لأنها تذكر ببعض العذاب الغنائي الذي خلفه محمد الماغوط قاسما مشتركا في أصوات الشعراء الشباب مطلع الثمانينيات، متمردة لأن موضوعاتها كانت تنساق خلف فلسفة تلك الايام (العدمية، الغربة الوجودية، اغتراب الهوية الذاتية، الهزيمة، السيكولوجية المقهورة، الرفض، النظر الى الخلف بغضب….) ثورية الوقع لأنها كانت تزج غنائية هذا المزيج من سياقات رثائية كونية بقدر ما هي ذاتية المنبع، تأملية فلسفية بمقدار محسوب، وجدانية اعترافية بمقدار فسيح: ((أين يمكن للعصافير والنسور/ ان تحلق خارج جحيمي/… كأنما العالم يجتر حطام أيامه الاخيرة/ في قلبي)).
بعد 16 سنة سوف يجمع الرحبي مختارات من شعره السابق، ولم يكن مدهشا انه اطلق عليها اسم ((معجم الجحيم)) وصدّر صفحتها الاولى بهذا الاقتباس من المسرحي والشاعر الفرنسي انتونان ارتو: ((ما أقسى شعور الانسان بعدم وجوده في مكان ما))، لقد مرت السنوات وتوالت المجموعات الشعرية، فتطور الذهاب والمجيء بين خريطة وأخرى الى وقفة في التعدد الوجودي للمكان، بين عزلة وأخرى، أو في جدل اجتماع ((العزلات)) على حد تعبير الشاعر، ترحل الفرد القادم من الربع الخالي، وطاف طويلا وبعيدا منذ ان غادر غرفته ((الأشبه بفوهة مسدس يبحث عن وليمة)) عام (1980)، منقلبا الى ((أوديب جديد يتسكع في شوارع بيروت)) (1984)، مرورا بمغادرته لغرفته ((التي تشبه كهفا مليئا بالقتلى)) (عام 1986)، وصولا الى عام 1998 حين يهتف على لسان بدر شاكر السياب: ((يا غربة الروح في دنيا من الحجر)).
كذلك ترحلت شعريات الفرد- الشاعر في اكثرمن مستقر واحد لذلك ((الربع الخالي الآخر)) أي خريطة الخيارات الاسلوبية الاولى التي افلحت في الحفاظ على درجة كافية من التماسك الداخلي فلم تتشظّ على نحو دراماتيكي (من النوع الذي شاع وصفه بـ((القطع)) مع الماضي)، ولكنها في الآن ذاته لم تتخلص تماما من ثلاثية البدايات: بطء منهجي، تسارع نزق، وفاء لدينامية الترحل. وفي المحصلة كان هذا الشد والجذب بين ترحل الفرد وترحل الشعريات هو جوهر سيرورة التطوّر التي شهدها شعر سيف الرحبي، وكان فضيلته الأبرز أيضا. وليس بغير مراس ناضج (ناجم، على الأرجح، عن الآلام الخلاقة للترحلين معا) ان مجموعة ((يد في آخر العالم)) تبدو عصارة عالية النقاء لعشرات القصائد السابقة التي كتبها الرحبي في أزمنة متفاوتة من نضج تجربته الشعرية. وليس بغير اسباب جدلية، ذات صلة بمنطق تطور شعرية الرحبي، انها تبدو تتمة طبيعية لمجموعة ((جبال)) التي سبقتها مباشرة.
ومستهل القصيدة الطويلة التي تحمل اسم ((هذيان الجبال والسحرة))، من مجموعة ((جبال))، يبدأ هكذا: ((لقد ذهبوا بعيدا صوب انفسهم/ وذهبوا في الوحشة. / أيام تتلوها أيام/، الديار تضمحل في عين عاشقها/ والجبال عرين الذكرى/ تفقس النسور بيوضها،/ الأقرب الى ألوان الرمال والصخور/ من فرط ما ارتطمت بالأزلية))، وأما مستهل النشيد الطويل في المجموعة الجديدة فإنه يسير هكذا:
كانوا هناك يرتبون أحلامهم
كلما مرت غيمة
أو جناح قطاة
ركلوا الأودية بحوافر أفراسهم
ذابوا في هباء المغيب.
كانوا هناك
يرتبون الصباحات على عجل
ويرشقون سماء جارحة
بنظرات ملؤها التوجس
والوحشة
مشدودين الى مدارات
لم يعد لها من حنين
وجبال أفرغ الطير أحشاءه في سفوحها.
وفي مستوى أول تهيمن على القارئ تلك السمة المشتركة لخصوصية تقديم ضمير الجمع في صيغة الغائب، والروابط التصويرية العليا التي تسبغ مناخات اسطورية على علاقة البشر بالمكان والكائنات، والصيغة الزمنية الغامضة التي تتحدث عن الماضي في امتداده نحو الحاضر، والتقطيع المشهدي الى وحدات من الحركة والسكون في آن معا، اللغة الشعرية هي المستوى الثاني التالي لهذه الهيمنة الأولى، حين تنفك المؤثرات السابقة عن وظائفها الايصالية الطبيعية لكي تنخرط في وظائف الايصال الدلالي والتواصل المجازي، وليس بجديد التذكير بأن بعض الكيمياء السرية للشعر الحق تتجلى في القدرة عل تحويل الكلمات لاى تجربة شعورية ثانية داخل التجربة ذاتها التي تجهد الكلمات لتمثيلها، الأمر الذي يخرج تلك الكلمات من حيز المألوف الذي نعرفه (لأننا نعرف شروحات مفردات هي بنت القاموس في نهاية الامر) الى حيز آخر لم نكن نعرفه، أو بالاحرى لن نعرف اننا قد نكون عرفناه من قبل إلا حين يكتمل انتقال الشحنة الشعورية من التجربة في القصيدة الى تجربة القصيدة كما نعيد صناعتها نحن.
ونحن نعرف التاريخ القاموسي لمفردات ((يرتّب))، ((أحلام))، ((مر))، ((غيمة))، ((ركل)) ((أودية))، ((حوافر أفراس)) ، ((ذاب))، ((هباء))، ((مغيب))… ولكننا نتعرف للمرة الاولى على علاقات مثل ((ترتيب الأحلام))، ((ومرور الغيمة))، و((مرور جناح قطاة)). و((ركل الاودية بحوافر الأفراس))، ، ((الذوبان في هباء المغيب))، ولأن هذه العلاقات تجري على لسان ضمير جمعي (غائب، غير ناطق صامت مثلنا نحن الذين نقرأ ونتعرف على تجاورات غير مألوفة لعناصر مألوفة تماما)، فان فرصة احلال الفانتازيا التخييلية محل الواقعية البصرية تتوافر أكثر فأكثر، وتصبح وسيلتنا الى استيراد التجربة واستظهارها عن طريق استخدام ضمائرنا نحن، هذه الضمائر التي تنطق بصيغة المتكلم بالجمع، أو بصيغة المتكلم بالمفرد، ((هم)) تنقلب بالتالي الى ((نحن)) و((انا))، والعلاقات التصويرية تصبح لغة مشتركة بين الغائب والحاضر، في الجمع والمفرد معا.
غير أن الرحبي، في مستوى ثالث من تطبيق هذه الكيمياء السرية، يذهب بالنشيد الى مصاف الإنشاد الملحمي حين يقترب من رثاء المدائن في القصيدة رقم ((2)) مثلا، فيستخدم ضمير المتكلم المفرد، ويسأل عن وجه عبر الحلم واليقظة، في الشرق او الغرب، او يستعيد ((الدخان المتصاعد من حناجر الغرقى/، في المتوسط وبحر إيجة، كزنتزاكي، / يتنزه بين عظام الاغريق، في البحر الميت/ او البحر الشمالي))، او يسترجع ذاكرة شخصية (الأب، الأم، بواب الاسكندرية العجوز، جان دمو، مقهى ((اللاتيرنا)) الدمشقي، جرب الأيام السنة).
وهو، في مستوى رابع، يختار واحدا من الكائنات المشاركة في صناعة مناخات النشيد (كما في القصيدة رقم ((3)) حين يدخل الباشق في شبكة ربط الحقيقة بالفانتازيا، والوجود بالعدم، وبحر عُمان بشرفات الأبد المحطمة)، او واحدا من العناصر الطبيعية المكونة للمشهد (شجر الميموزا في القصيدة رقم ((4)) )، دون أن يتوقف عن استدعاء كائنات أخرى (الحوت، الغربان، السباع، الحمائم، بنات آوى، الضباع، اليمام، العنقاء، السناجب، الوعول، اسماك القرش، الأفاعي…)، وعناصر أخرى (المقابر، الشمس، السكينة، العواصف، النخيل، خيام الزط، السيكلوب، ذو العين الواحدة…).
وهو، في مستوى خامس ، يتكئ على توظيف مفهوم الحكاية (كما في القصيدة ((10)) وحكايات الطفولة التي ترويها القابلات او نائحات القرية)، او سرد حكاية صغيرة من زمن الطفولة لادخال تفصيل محدد مستمد من الذاكرة الشخصية، او توطيد الحضور الانساني في المشهد (باعة الورس القادمين من حضرموت، رحالة البدو من أقاصي ((وهيبة)) والربع الخالي)، أو ربط الماضي بالحاضر والشرق بالغرب عن طريق اسطرة اداة الربط (كما في مثال مخاطبة البحار ابن ماجد ((سليل الخطر، مروض العاصفة في ليلة هاج فيها اللج وازبد وسط ظلام مذعور يرتطم فيه صراخ الغرقى وتضمحل على حائطه الارادات)).
وهو، في مستوى سادس، يختم النشيد بأربع قصائد تسير على لسان ضمير المتكلم المفرد، وتبدأ بعبارة متماثلة ( ((اطلق سراح النظر/ اطلق سراح أيامي)، ولكنها تُعدد الأصوات والضمائر، وترد النشيد لى مبتدئه الأول عند الجماعة الكونية التي ترتب الازمان والتواريخ والأمكنة والعناصر، والتي تعيد الشاعر الفرد الى أبجدية ترحاله الدائب:
في أي جهة ستمضي هذا المساء؟
وبأي آلاء ستقسم على عمر هارب؟
مدن تتقاطر في النوم تتبعها قطارات
تحسب صفيرها
نواح ذئاب
مدن تتقافز من صباحات محاصرة
تحمل متسكعين وغرقى
تحمل مقاهي
ربما جلس فيها ذات يوم
عشاق ومقاتلون في حروب عبثية.
وفي هذا المقطع يلوذ الرحبي بضمير المخاطب دون ان يطمس حقيقة ان هذا الضمير ليس سوى الـ((أنا)) وقد رحلت تيهها الى الخارج، الى مرآة مكشوفة في عراء من مرور العمر في الماضي، وضنك البحث عن ((آلاء)) تصاحب الانتقال الى جهة أخرى هذا المساء. والحق ان تأزم ائتلاف الضمائر في مجموعة الرحبي الجديدة (وهو السمة التي تطبع مجموعاته الخمس الأخيرة ايضا) مرشح لاقتياد القارئ الى نوع من ((تحييد)) هذه الذات الشعرية، وهي الـ((أنا)) الخاصة بالشاعر في نهاية الامر، ثم تحرير هذه الذات من العناصر التي تبقيها ملكية خاصة للشاعر، وصولا الى ((تعويم)) عوالمها على نحو يتيح للقارئ أن يتماهى معها وفيها.
وهذه فضيلة اضافية صريحة لشعر بدأ عدميا قلق الوجود، وهو اليوم يواصل القلق من داخل ذات شعرية لم تتبدل كثيرا، باستثناء أنها باتت تقبل مبدأ القسمة، ولا تنازع القارئ حقه في محاصصة ذاته الشخصية في ذات الشاعر، وغني عن القول ان هذه فضيلة اضافية ينبغي أن تضاف الى رصيد المنجز الجماعي لجيل سيف الرحبي من شعراء قصيدة النثر تحديدا (إذ ليس دونما دينامية تطور حقيقية وحقة انهم يفلحون في كسب القارئ على هذا المستوى الحساس، هم الذين يصارعون لاقتياده وسط مصاعب شكل لا يستدر الكثير من عطف الحساسية القرائية التليدة). وينبغي ان تحسب في عداد النجاحات الابرز لهذا الجيل.
ولأنه الشاعر القادم من الربع الخالي والذاهب في كل فج كوزموبوليتي عميق في الآن ذاته، فإن اليد التي يطلقها سيف الرحبي في آخر العالم- وتحديدا في القصيدة التي تختتم المجموعة!- هي ((يد وحيدة تلوح في البعيد/ وحيدة من غير مسافرين/ ولا أرصفة أو قطارات)). غير انها تواصل التلويح في كل حال، ولا يبدو انها وحيدة أبدا، حتى اذا كان هذا هو الشعور الذي يوحي به صاحب اليد،وليد كهذه، لليد المحتشدة وسط حشود، كتب سيف الرحبي نشيداً بانوراميا مشحوناً، مدهشا في ما يحشد من منظورات ملحمية تعددية، راحلة جيئة وذهابا في مرايا متقاطعة للماضي والحاضر، للذات والآخر، للفرد والجماعة، للرثاء والقيامة، وللحضور في أوج الترحل.
·        ناقد من سوريا يقيم في باريس
هوامش:
1 – سيف الرحبي، ((يد في آخر العالم))، دار المدى للثقافة والنشر- دمشق 1998، 96 صفحة.
2 – وراجع أيضا د. سعد البازعي، ((ثقافة الصحراء))، دراسات في أدب الجزيرة العربية المعاصر، خاص، الرياض 1991، صفحة 32.